(الخطبة الأولى) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتمّ علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينًا، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. وأشهد ألا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين. أمـا بـعـد/ أيها الأخوة المؤمنون:
(الإسراء والأزمة )
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله عز وجل: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لَقِيتُ ليلة أُسرِيَ بي إبراهيمَ، فقال لي: يا محمدُ، أَقْرِئ أُمَّتكَ منِّي السلامَ، وَأخْبِرهم: أَن الجنةَ طَيِّبَةُ التُّربة، عَذْبةُ الماء، وأنها قِيعانٌ -يعني مستوية تُمْسِكُ الماء وتُنْبِتُ العُشْبَ-، وأَنَّ غِراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».
أيها الأحبة:
يستذكر المسلمون في شهر رجب ذكرى الإسراء والمعراج، ولئن كان الإسراء والمعراج مما يجب الإيمان به ولا يجوز إنكاره، لما ورد فيه من نصوص قطعية الثبوت والدلالة من الكتاب والسنة، فإن تاريخ الإسراء والمعراج مما اختلف فيه العلماء فمنهم من قال هو في ربيع ومنهم من قال بل في رمضان ومنهم من رأى أنه في رجب ... وعدم الاتفاق على شهره ويومه لا يقلل من قدر هذه الحادثة ومدلولاتها، والدروس والعبر التي ينبغي على المسلمين إحياءها في كل آن وحين ..
أيها الأحبة:
عشر سنوات مضَت قاسيات قضاها رسول الله ﷺ وكان يعاني فيها وأهلُه وأصحابُه الكرام أنواعَ الآلام وأصناف الكرب وأشكال البلاء، فمِن تكذيبِهم له، إلى نشر الشائعات عنه وترويج الكذب والإفك، فحيناً يقولون: ساحر، وحيناً: شاعر، وحيناً: مجنون ...
وتبدأ قريش سياسة التعذيب والتجويع والتهجير والقتل، فيُلقَى بلال على الرمال في الرمضاء، ويُعلَّق الزبير بن العوام - وهو ابن أربع عشرة سنة- في حصير ويُدخَّن عليه ليرجع إلى الكفر، وتضع أم أنمار الحديدة المحماة على ظهر خبَّاب بن الأرتّ حتى تبرد بشحم ظهره، وحتى صار في ظهره مثلُ الأخاديد، ويموت ياسر وسميَّة وثويبة وغيرهم رضي الله عنهم تحت التعذيب ..
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّه أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّه قَريبٌ) ..
ويبدأ الحصار الظَّالم في شِعب أبي طالب: لا تبيعوا محمَّداً وأصحابه شيئاً، ولا تشتروا منهم، لا تزوجوهم ولا تتزوجوا منهم، وحرام على رجل إمدادهم أو معونتهم ..
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
ثلاث سنوات يعصرهم الجوع عصراً، ويعلو بكاء الأطفال حتى يُسمَع من وراء الشعب، ويموت قوم جوعًا وعطشًا وسغبًا ..
هاجَر بعض الصحابة من بلدهم، وتركوا مكة مكرَهين إلى الحبشة، هجرة أولى وثانية، ينجون بأنفسهم وبأهليهم.
إنها صنوف الآلام وأنواع البلايا تتوالى تترى على الرسول الكريم وصحابته الأطهار، وليس يجد مِن معين بعد الله غير الجماعةِ المؤمنة المستضعَفة، ثم زوجه خديجة وعمّه أبي طالب، فلما كانت السَّنَةُ العاشرة للبعثة ماتت خديجة ثم أبو طالب، ونالت قريش من رسول الله ﷺ ما نالت.
يبدو - أيها الأحبة- أنَّ السُّنة الماضية في هذه الحياة أنَّ على أهل الحق أن يوطِّنوا أنفسَهم لاستقبال البلاء، وأنْ يُعدُّوا للكرب عدَّته، فهم وإن كانوا يألَمون فعليهم أن لا ييأسوا، وهم وإن كانوا يتوجعون فعليهم أن لا يتراجعوا؛ لأنهم يعلمون أن اشتداد المصائب إيذان بالفرج.
وهكذا مرَّت عشر سنوات موجِعاتٍ قاسيات لتأتي بعدها المكافأة الإلهية والمعجزة الربَّانية والعطيَّة الرَّحمانية، إنها الإسراء والمعراج، أسرى الله تعالى بسيِّدنا محمد ﷺ روحاَ وجسداَ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمَّ عُرِجَ به إلى السَّموات العُلا، التقى فيها بإخوانه الأنبياء وأطلَعَه الله تعالى على شيءٍ من عوالم الآخرة، وطمأَنَه على مستقبل دعوته، وفرض الصلاة على المؤمنين في السَّماء خمساً في اليوم والليلة، وكل العبادات فُرِضَت في الأرض إلا الصلاة، فإنها فُرِضَت في السَّماء؛ لأنها عماد الدِّين، وهي معراج المؤمن، فعاد رسول الله ﷺ مطمئناً قلبُه، جديدةً عزيمتُه، ماضياً في رسالته، واثقاً بأن العاقبة للتقوى وللمتقين ولأهل الحق على الظالمين.
أيها الأحبة:
الفرَج بعد الشِّدَّة سنَّة ماضية على مرِّ الزمان، واليُسر مع العسر آية محكَمة من آيِ القرآن، والبلايا ممحاة الخطايا، ولكل أجَل كتاب. أيها الأحبة:
إن من لوازم الإيمان الحقيقي دوام الأمل بفرج الله، واليقينُ بأن تصرف الله في عباده هو عين العدل والحكمة، وأن عطاء الله عطاء وأن منعه عطاء .. يقول الغزالي رحمه الله: " إذا رأيت الله يحبس عنك الدنيا ويكثر عليك الشدائد والبلوى ..فاعلم أنك عزيز عنده وأنك عنده بمكان .. وأنه يسلك بك طريق أوليائه وأصفيائه .. وأنه .... يراك.. أما تسمع قوله تعالى .. (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) ".
تأمل في أحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ فهذا يوسف لما صار في غيابة الجب، ثم في ضيق السجن، كرب على كرب، وهَمٌّ على هَمّ، فماذا حصل بعد ذلك؟ تداركته رحمة الله عزَّ وجلَّ، وهي قريب من المحسنين، فأخرجته من ظلام الجب ومن ضيق السجن إلى سعة الملك وبسط في العيش، واجتمع بأهله في حال الرخاء بعد الشدة.
وهذا يونس في بطن الحوت، لما نزل به البلاء دعا ربه في مكان ما دعا به أحد من الناس ربه، في جوف البطن المظلم، قال: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فاستجاب الله دعاءه.
وهذه سيرة نبينا محمد ﷺ فيها من الشدائد والأهوال والكرب والهموم، التي لحقها بعد الصبر الفرج والعطاء والنصر والتمكين .. لكن للشدائد فوائد بالرغم من أنها مكروهة للنفس، فمنها:
أن الله يكفر بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات، ويدفع الكربُ المكروبَ إلى التوبة، ويلجأ إلى الله وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من كثير من العبادات؛ أن ينكسر المخلوق لله سبحانه، وأن يشعر بذله أمام الله، وأن يشعر بحاجته إلى ربه وافتقاره إلى خالقه.
وقد علّمنا رسول الله ﷺ أدعية إذا نزل بنا الكرب واشتدت الأمور وضاقت علينا الأرض بما رحبت، فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) وكان ﷺ إذا حزبه أمر قال: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث) .
وقال عليه الصلاة السلام: (من أصابه هم أو غم أو سقم أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له، كشف ذلك عنه) وعن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال: (دعوة المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)، وقال رسول الله ﷺ: (دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له).
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكــــاره واطمأنت
وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجــهاً
ولا أغنى بحيلتــــه الأريب
أتاك على قنوط منك خـــوف
يمن به اللطيف المســتجيب
وكل الحادثات إذا تنـــــاهت
فموصول بها فرج قريــــب
أيها الأحبة:
لو كان الابتلاء والشدة غضبًا من الله وسخطًا على عباده، لما ابتلى أنبياءه ولا أولياءه، ولو كان الرخاء والعافية رضًا منه ومحبة لما عافى أعداءه ..
ولكن ليميز الخبيث من الطيب، ويجعل عذاب الدنيا للمؤمن امتحانًا وكفارة ورفع درجة، وللعصاة مقدمة لعذاب الآخرة ..
أيها الإخوة:
هذا حديث عن الإسراء والأزمة، ونحن وإن كنا نعيش اليوم أيَّام الشدائد والمحَن، فإنَّا نرجو الله بصبْرِنا وعوننا للخير وأهلِه وانضباطنا بالشَّرع ونهجه مِنَحاً من الله يَجبر بها كسْرَنا، ويُحسِن بها منقلَبَنا، ويرزقنا بها سعادة الدارين ..
ختامًا ندعو بدعاء الكرب الذي علمنا إياه حبيبنا محمد ﷺ ..
لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم ..
يا حي يا قيوم ! برحمتك نستغيث ..
اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت .
لا إله إلا أنت سبحانك .. إنا كنا من الظالمين ..
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم ..
..
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق